مصير PKK- هل حان وقت الحل بعد عقود من الإرهاب؟

منذ نشأتها في عام 1978، ارتكبت منظمة "بي كا كا" الفظائع تلو الفظائع، مخلفةً وراءها ما يربو على 16 ألف شهيد من الموظفين الحكوميين الأتراك، بينهم جنود بواسل، ورجال شرطة أشداء، وعناصر درك، وأطباء مخلصون، ومعلمون أفاضل، فضلًا عن أعداد هائلة من المدنيين الأبرياء، من نساء وأطفال. وقد تكبدت تركيا جراء هذه الحرب المريرة خسائر اقتصادية فادحة تقدر بنحو تريليوني دولار. تُرى، هل بلغت هذه المنظمة الإرهابية نهايتها المحتومة؟
لطالما حظيت "بي كا كا" بدعم سخي من قوى إقليمية ودولية متعددة، سواء كان ذلك دعمًا ماليًا، أو بشريًا، أو تسليحيًا، من بين هذه القوى روسيا، وإيران، وعدد من دول حلف شمال الأطلسي التي تنتمي إليها تركيا، مثل ألمانيا، وفرنسا، وبلجيكا، وهولندا، والسويد، والولايات المتحدة الأمريكية. ورغم إهلاك ما يقارب الـ 60 ألفًا من عناصرها الخبيثة حتى الآن، فهل من المعقول أن تعلن هذه المنظمة عن حلّ نفسها بنفسها؟
هذا السؤال المحوري يتردد صداه بإلحاح في أرجاء تركيا، وفي عموم منطقة الشرق الأوسط المضطربة.
وفي الأسبوع الفائت، وبالرغم من أن وزير الخارجية التركي، السيد هاكان فيدان، لم يقدم إجابة شافية وحاسمة حول هذا الموضوع خلال حضوره مؤتمرًا صحفيًا مشتركًا في العاصمة القطرية الدوحة مع رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري، سعادة الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني، إلا أنه جدد التأكيد على تطلعاته وعزمه الراسخ أمام العالم أجمع، مصرحًا بلهجة قاطعة فيما يتعلق بالقضية السورية الشائكة: "بادئ ذي بدء، نؤكد أننا لا نقبل مطلقًا بأي مبادرة مشبوهة تستهدف النيل من وحدة الأراضي السورية".
وأضاف قائلًا: "وبناءً على ذلك، فإننا نرفض بشكل قاطع أي تحرك من شأنه أن يفسح المجال لاستمرار وجود التنظيمات الإرهابية الآثمة في سوريا. ولا يمكن لنا القبول بتغيير الأسماء أو الهياكل أو الإدارة؛ بهدف التمويه على الوجود الفعلي لمنظمة "بي كا كا" الإرهابية وإطالة أمد بقائها".
واستطرد قائلًا: "نتوقع تفعيل الاتفاق الموقع بين "واي بي جي" (وحدات حماية الشعب الكردية، الذراع السورية لمنظمة "بي كا كا" الإرهابية) والإدارة المحلية في سوريا خلال الأشهر القليلة الماضية، وذلك دون مماطلة أو تسويف".
وتابع قائلًا: "ونتوقع أيضًا من منظمة "بي كا كا" أن تستجيب بسرعة وبشكل إيجابي للدعوة الموجهة إليها، وأن تتخلى عن سلاحها الفتاك، وأن تتوقف عن كونها عقبة كأداء في طريق عودة الحياة إلى طبيعتها في منطقتنا. فكما تم استئصال شأفة تنظيم الدولة الإرهابي من المنطقة، فإن منظمة "بي كا كا" الإرهابية أيضًا ستُستأصل جذورها. فإما أن ترحل طوعًا وبسلام، وإما أن ترحل بطريقة أخرى لن تسرها، ولكنها سترحل لا محالة".
واختتم حديثه قائلًا: "مما لا شك فيه أن لذلك تداعيات مؤثرة في سوريا، وإيران، والعراق. وإذا ما استمرت أي جهة مارقة، ارتضت لنفسها أن تكون أداة طيعة في يد قوى خارجية معادية، في الوقوف في طريقنا كمحارب بالوكالة، فإننا بعون الله تعالى نمتلك من الوسائل والقدرات ما يكفي لمواجهتها والقضاء عليها".
كلمات الوزير فيدان هذه تعكس استياءه العميق من التأخر الملحوظ في تنفيذ دعوة السيد عبدالله أوجلان، الزعيم التاريخي لمنظمة "بي كا كا" الإرهابية، والمعتقل منذ عام 1999 في سجن إيمرالي، والتي أطلقها في السابع والعشرين من شهر فبراير/ شباط من العام الجاري 2024، ودعا فيها صراحةً وعلانيةً إلى حل التنظيم وتفكيكه. وقد انقضى على تلك الدعوة شهران كاملان دون اتخاذ خطوات فعلية ملموسة على أرض الواقع.
جذور الانفصال تمتد إلى 51 عامًا
تعود جذور هذا التنظيم الإرهابي الانفصالي المقيت، الذي أسسه المجرم عبدالله أوجلان، إلى ما يقرب من 51 عامًا مضت. ففي عام 1973، تشكّلت في العاصمة التركية أنقرة ما عُرف حينها بـ"مجموعة الأبوكيين" (نسبة إلى لقب أوجلان: أبو)، وبحلول عام 1976 بدأ هذا التيار المنحرف في الانتشار شرقًا وجنوب شرق الأناضول تحت اسم "ثوار كردستان". وفي عام 1977، انتقلت هذه الجماعة الإرهابية إلى تنفيذ عمليات مسلحة خسيسة في المناطق الريفية النائية، لتبدأ لاحقًا، اعتبارًا من عام 1978، نشاطها الإجرامي داخل المدن الآمنة.
وفي اجتماع سري مشبوه عقده أوجلان مع ثمانية عشر عضوًا من أتباعه الضالين في منطقة ليجه التابعة لمحافظة ديار بكر في السابع والعشرين من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني لعام 1978، أُعلن رسميًا عن تأسيس ما يُعرف اليوم بـ"حزب العمال الكردستاني – PKK" كتنظيم غير شرعي خارج عن القانون.
في بداياته، استهدف "بي كا كا" الجماعات السياسية الكردية الأخرى التي رآها خصمًا لدودًا له في مناطق الشرق والجنوب الشرقي ذات الأغلبية الكردية، فنفّذ ضدها اغتيالات غادرة وهجمات دامية وحشية. وفي المؤتمر التأسيسي الأول للتنظيم، تم اتخاذ قرار بتسريع عمليات التنظيم الداخلي، وإعداد البرنامج السياسي والبيان التأسيسي.
ولكن، سرعان ما أدت القبضة الأمنية إلى اعتقال أحد المشاركين في الاجتماع، ويدعى شاهين دونميز، في شهر مايو/ أيار من عام 1979، واعترافه بالتفاصيل الداخلية الدقيقة للتنظيم، إلى حالة من الذعر والتخبط الشديدين في صفوفه. وبالتوازي مع استمرار الهجمات الشرسة على الجماعات الكردية الأخرى، بدأت سلسلة من التصفيات الداخلية المروعة بذريعة "العمالة" و"الخيانة".
وفي خضم هذه الفوضى العارمة، بقي أوجلان القائد الأوحد للتنظيم، واستغل الدعم السخي الذي قدمته استخبارات النظام السوري المجرم لعبور الحدود في شهر يونيو/ حزيران من عام 1979، حيث أصدر تعليماته المشددة بإعلان تأسيس التنظيم عبر "عملية ضخمة تجذب الأنظار وتثير الرعب".
من الانفصالية إلى الاستسلام
تحت حماية ورعاية الاستخبارات السورية، استقرّ أوجلان في بلدة عين العرب (كوباني حاليًا)، والتي باتت تمثل اليوم مركزًا لما يُعرف بـ"بي كا كا/بي واي دي"، ثم انتقل بعدها إلى دمشق. وفي التاسع والعشرين من شهر يوليو/ تموز من عام 1979، نفّذ أنصاره المجرمون هجومًا مسلحًا آثمًا على النائب البرلماني عن حزب العدالة وزعيم عشيرة البوجاق، محمد جلال بوجاق، ما أدى إلى إصابته بجروح بالغة، ومقتل صهره وطفل بريء في التاسعة من عمره.
وترك الإرهابيون الجبناء في موقع الهجوم البيان التأسيسي لمنظمة "بي كا كا" الإرهابية، والذي أعلن فيه هدفه بوضوح وجلاء: "تأسيس دكتاتورية شعبية بغيضة في كردستان المستقلة والموحّدة".
لاحقًا، بدأ أوجلان يعدّل من طرحه السياسي المضلل، فانتقل من شعار "كردستان المستقلة والموحّدة" الطنان إلى شعارات أخرى براقة زائفة مثل "الفدرالية" و"الحكم الذاتي الإقليمي".
وخلال ما يقرب من نصف قرن من العمل المسلح، لم تحقق هذه المنظمة الإرهابية أيًا من أهدافها المعلنة الكاذبة، باستثناء زراعة بذور الفتنة والتعصب العرقي البغيض في أذهان فئة محدودة من الشباب المغرر بهم. ويعزى ذلك بشكل أساسي إلى النضال المتواصل وغير المنقطع الذي خاضته الدولة التركية بكل مؤسساتها ضد هذه المنظمة الإجرامية.
لقد بدأ أوجلان مسيرته الإجرامية في عام 1979 بشعار: "تأسيس دكتاتورية شعبية في كردستان المستقلة والموحّدة"، ثم ختمها في السابع والعشرين من شهر فبراير/ شباط من عام 2025 بهذه الكلمات المدوية، التي تعكس بوضوح اعترافًا صريحًا بفشل مشروعه الخبيث: "الانزلاق نحو قومية مفرطة، وما تبعها من أطروحات عقيمة كالدولة القومية المستقلة، والفدرالية، والحكم الذاتي الإداري، والحلول الثقافوية، لم تعد تلبي متطلبات علم الاجتماع التاريخي للمجتمع بأي حال من الأحوال".
أي أن أوجلان نفسه قد أقرّ، بعد خمسة وأربعين عامًا من التمرد المسلح العبثي، بأن لا الدولة الكردية المستقلة المزعومة، ولا الفدرالية، ولا الحكم الذاتي، تشكل حلولًا واقعية قابلة للتطبيق على أرض الواقع.
بيان أوجلان
حمل البيان الذي أصدره الإرهابي عبدالله أوجلان بتاريخ السابع والعشرين من شهر فبراير/ شباط من عام 2025 عنوانًا خادعًا: "دعوة إلى السلام والمجتمع الديمقراطي"، وقد ورد فيه ما يلي:
"لقد نشأت منظمة بي كا كا في القرن العشرين، الذي يُعدّ بلا منازع أكثر القرون عنفًا ودموية في التاريخ، والذي شهد اندلاع حربين عالميتين مدمرتين، وتجارب الاشتراكية الواقعية الفاشلة، وأجواء الحرب الباردة المشؤومة التي عمّت أرجاء المعمورة، ووسط إنكارٍ تامٍ للواقع الكردي، وقمعٍ سافرٍ للحريات الأساسية، وعلى رأسها حرية التعبير".
ويضيف البيان المثير للجدل: "لقد تأثرت المنظمة من حيث النظرية والبرنامج والإستراتيجية والتكتيك، بتجربة الاشتراكية الواقعية آنذاك تأثرًا بالغًا وواضحًا".
ويتابع البيان: "ومع انهيار الاشتراكية الواقعية في تسعينيات القرن الماضي لأسباب داخلية بحتة، ومع انحسار سياسة إنكار الهوية داخل البلاد، والتقدم الملحوظ الذي أُحرز في مجال حرية التعبير، دخلت منظمة بي كا كا في مرحلة حرجة من الفراغ المعنوي والتكرار المفرط، مما جعل نهايتها المحتومة، كغيرها من التنظيمات المشابهة، أمرًا حتميًا لا مفر منه".
ويزعم البيان: "لقد ظلت العلاقة الكردية التركية على مدى أكثر من ألف عام قائمة على تحالف طوعي وثيق، كانت فيه الغاية المشتركة هي الحفاظ على الكيان الموحد في مواجهة القوى المهيمنة المتغطرسة. ولكن الحداثة الرأسمالية الغربية، على مدى القرنين الماضيين، سعت جاهدة إلى تفكيك هذا التحالف التاريخي، ووجدت من يخدم مخططاتها الخبيثة في إطار الصراع الطبقي والاجتماعي المدمر. وقد تسارعت هذه الوتيرة بفعل التفسيرات الأحادية للجمهورية".
ويستطرد البيان: "واليوم، ومع ازدياد هشاشة هذه العلاقة التاريخية المتينة، فإن إعادة تنظيمها على أساس روح الأخوّة الصادقة، دون إغفال البعد الإيماني العميق، بات ضرورة ملحة لا تحتمل التأجيل. فحاجة المجتمع إلى الديمقراطية الحقيقية أمر لا مفر منه".
ويقر البيان: "إن صعود منظمة بي كا كا كأكبر حركة تمرد وعنف في تاريخ الجمهورية، جاء نتيجة مباشرة لانسداد قنوات السياسة الديمقراطية السلمية. وإن الحلول القائمة على الدولة القومية المنفصلة، أو الفدرالية، أو الحكم الذاتي الإداري، أو الأطروحات الثقافوية، الناتجة عن الانجراف القومي المفرط، لم تعد تقدم جوابًا مقنعًا لعلم الاجتماع التاريخي للمجتمع".
ويواصل البيان: "إن احترام الهويات المتنوعة، وضمان حرية التعبير والتنظيم الديمقراطي، وحق كل فئة في أن تكون لها بنيتها السوسيو-اقتصادية والسياسية الخاصة بها، لا يمكن أن يتحقق إلا بوجود مجتمع ديمقراطي حقيقي وساحة سياسية حيوية".
ويختتم أوجلان بيانه قائلًا: "إن قرن الجمهورية الثاني لن يكون مستقرًا ومستدامًا إلا إذا تُوّج بالديمقراطية الحقيقية والعدالة الاجتماعية. ولا سبيل لتحقيق الأنظمة المنشودة إلا من خلال الديمقراطية، فالاتفاق الديمقراطي هو الأساس المتين. كما يجب تطوير لغة جديدة تناسب الواقع المتغير لمرحلة السلام والمجتمع الديمقراطي".
ويستطرد قائلًا: "وفي هذا السياق، ومع دعوة السيد دولت بهتشلي، والموقف الإيجابي الذي أبداه السيد رئيس الجمهورية، والمواقف الإيجابية التي أبدتها بعض الأحزاب السياسية تجاه هذه الدعوة المعروفة، فإنني أوجه دعوة صادقة لوقف إطلاق النار وأتحمل المسؤولية التاريخية الكاملة لهذه الدعوة".
ويضيف: "وكما تفعل أي جماعة أو حزب عصري رشيد لم يُجبر على إنهاء وجوده قسرًا، فإنني أطلب منكم عقد مؤتمركم واتخاذ قرار جريء: يجب أن تضع جميع المجموعات المسلحة السلاح فورًا، وأن يتم حلّ منظمة بي كا كا بشكل كامل ونهائي. أبعث بتحياتي الخالصة لجميع الجهات التي تؤمن بالعيش المشترك وتصغي بإنصات إلى ندائي هذا".
انهيار النموذج الفكري
كان البيان المكتوب بخط يد أوجلان، والمكوّن من ثلاث صفحات ونصف، بمثابة لحظة فارقة تمثلت في انهيار النموذج الفكري ليس فقط لتنظيم "بي كا كا/ك ج ك" الإرهابي، بل أيضًا لذراعه السورية "بي واي دي"، وامتداده الأوروبي، وجناحه السياسي داخل تركيا، حزب "ديم".
فبهذه الدعوة الصريحة، أعلن مؤسس التنظيم بنفسه انتهاء "الإستراتيجية الأساسية" المزعومة، وأقرّ اعترافًا ضمنيًا بأن منظمة بي كا كا قد أصبحت "فاقدة للمعنى والهدف"، لأنها فقدت المبرر الأساسي الذي أُسست من أجله في الأصل.
فبعدما حُلّت قضية الهوية في تركيا بشكل كامل، ولم تعد هناك أهداف مشروعة من قبيل الدولة المستقلة الوهمية، أو الفدرالية الزائفة، أو الحكم الذاتي المحدود، لم يعد للمنظمة أي مبرر مقنع لاستمرارها في الوجود. وقد لخّص أوجلان ذلك بكلمات موجزة قائلًا:
"مع انهيار الاشتراكية الواقعية في تسعينيات القرن الماضي لأسباب داخلية بحتة، وانحسار سياسة إنكار الهوية داخل البلاد، والتقدم الملحوظ الذي أُحرز في مجال حرية التعبير، فقدت بي كا كا معناها الحقيقي ودخلت مرحلة من التكرار الممل، ومن ثم بات حلها ضرورة حتمية كما هو الحال مع التنظيمات المشابهة".
وأخيرًا، ختم أوجلان دعوته الحاسمة قائلًا:
"أتحمّل المسؤولية التاريخية الكاملة لهذه الدعوة. وأدعو كل المجموعات التابعة لبي كا كا لعقد مؤتمر طارئ واتخاذ قرار نهائي لا رجعة فيه: على الجميع ترك السلاح فورًا، ويجب أن تُحلّ منظمة بي كا كا بشكل كامل".
قرارات لم تلتزم بها "بي كا كا"
حين تحدّث أوجلان عن "جميع المجموعات"، فقد كان يقصد بشكل واضح كامل هيكل "بي كا كا/ ك ج ك" التنظيمي والإداري، سواء في تركيا، أو في سوريا، أو في إيران، أو في العراق، أو في الشتات الأوروبي. ومع ذلك، واستنادًا إلى تجارب سابقة مريرة، كان يدرك تمامًا أن دعوته هذه لن تلقى الاستجابة المرجوة والمنشودة، ولهذا السبب تحديدًا أنهى بيانه المكتوب بخط يده بجملة ذات دلالة عميقة:
"أبعث بتحياتي الخالصة إلى جميع الجهات التي تصغي بإنصات إلى ندائي هذا".
ويرى المراقبون المتعمقون في ملف "بي كا كا" المعقد، والذين يدركون تمامًا أن هذه المنظمة لم تعد تسعى بأي شكل من الأشكال إلى تحقيق "حقوق الأكراد" المشروعة، وإنما تحوّلت للأسف إلى أداة طيعة خاضعة تمامًا لتعليمات وتوجيهات الولايات المتحدة الأمريكية، وذراعًا قوية تُستخدم بوقاحة لصالح الكيان الصهيوني المتغطرس المنغمس حتى النخاع في جرائم الإبادة الجماعية المروعة، يرون أن هذا التنظيم الإجرامي لن يُقدم بسهولة على حلّ نفسه أو على تسليم سلاحه الفتاك، ولن يلتزم بوقف إطلاق النار.
ذلك أن منظمة "بي كا كا" الإرهابية سبق لها أن أعلنت عن قرارات مماثلة بـ"وقف إطلاق نار/تسليم سلاح/ حل التنظيم" ست مرات سابقة، وذلك في الأعوام: 1993، 1995، 1998، 2006، 2009، و2013، ولكنها في كل مرة ما لبثت أن نكثت بعهودها ومواثيقها، واستأنفت عملياتها الإرهابية الخسيسة.
وفي يوم الأول من شهر أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي 2024، وهو اليوم الذي افتُتحت فيه الدورة الجديدة للبرلمان التركي، توجّه رئيس حزب الحركة القومية التركي، السيد دولت بهتشلي، إلى مقاعد نواب حزب "ديم" الموالي للأكراد، الذراع السياسية لمنظمة "بي كا كا" الإرهابية، وصافحهم بحرارة في خطوة وُصفت بأنها رمزية؛ فُسّرت على نطاق واسع بأنها تمثل البداية لمبادرة سياسية جديدة واعدة. وإذا قُدّر لهذه المبادرة أن تكتمل على أكمل وجه، فستكون هذه المرة السابعة التي يُتخذ فيها قرار رسمي بحل التنظيم الإرهابي.
ولكن، وعلى الرغم من الآمال المعقودة على بناء "تركيا خالية تمامًا من الإرهاب"، فإنّ التجارب المريرة السابقة تستدعي الحذر الشديد والحيطة المستمرة. ولهذا السبب بالتحديد يتردد كثيرًا في الأوساط السياسية والإعلامية التركية مصطلح "تفاؤل حذر".
مؤشرات غير مبشّرة
غير أنّ الأخبار الواردة من خلف الكواليس لا تدعو حتى لهذا القدر المحدود من التفاؤل؛ بل على العكس تمامًا، فإن ما يُنقل عن اللجنة التنفيذية لمنظمة "بي كا كا" الإرهابية يفيد بوضوح بأنها تطرح شروطًا تعجيزية لقبول حلّ نفسها بشكل كامل ونهائي.
ومن أكثر الشروط غرابة وإثارة للدهشة أنها تطلب بشكل وقح أن يترأس الإرهابي عبدالله أوجلان بنفسه مؤتمر التنظيم، على الرغم من أنه لم يُبدِ هذا الطلب أصلًا، وهو يقضي في الأساس حكمًا بالسجن المؤبد المشدد!
وفي بيان رسمي نشرته اللجنة خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي، قالت بوقاحة: "لا نريد بأي حال من الأحوال أن نكون الطرف الذي يخرق العملية"، ولكنها بذلك ألمحت ضمنيًا إلى احتمال عودتها إلى العمل الإرهابي الخسيس مجددًا.
إنهم يريدون بكل وضوح أن يشعلوا بأنفسهم فتيل القتال والفتنة، ولكن دون أن تُنسب إليهم المسؤولية الكاملة بطبيعة الحال، تمامًا كما اعتادوا أن يفعلوا دائمًا، عبر سياسة كسب الوقت والمماطلة والتسويف. أما تغيير الأسماء والقيادات، فهو في الواقع ليس إلا مجرد تكتيك من التكتيكات المتكررة لديهم، وإظهار العداء للعنف ما هو إلا نفاق سياسي متقن يتقنونه جيدًا.
كما يُتوقّع على نطاق واسع أن يُقدِم التنظيم الإرهابي على تنفيذ عمليات استفزازية دنيئة في الداخل التركي الآمن، أو في الأراضي السورية أو العراقية المجاورة، مع الحرص الشديد على أن تُنسب هذه العمليات زيفًا وبهتانًا إلى الأتراك الأبرياء، وذلك بغرض إثارة الفتنة والبلبلة وتقويض الأمن والاستقرار.
وقد تكون بعض هذه الهجمات الغادرة موجهة بشكل خاص ضد الأكراد أنفسهم، أو ضد أهداف أمريكية سبق أن أعلنت بكل وضوح عن نيتها الانسحاب الكامل من المنطقة، وهو ما قد يدخل في إطار التصعيد الاستفزازي المتعمد.
السلاح: مصدر القوة الوحيد
إن تاريخ منظمة "بي كا كا" الإرهابية، الممتد لما يقرب من نصف قرن، يجعل جميع السيناريوهات المحتملة واردة وممكنة، غير أن أضعفها احتمالًا على الإطلاق هو تخليها التام عن العنف والسلاح، وهما في الواقع يمثلان مصدر قوتها الوحيد المتبقي.
لقد استمرت منظمة "بي كا كا" الإرهابية طوال خمسين عامًا كاملة لسببين رئيسيين لا ثالث لهما:
- الدعم الخارجي السخي الذي تلقّته باستمرار من دول مثل إسرائيل، وإيران، والولايات المتحدة الأمريكية، وعدد من الدول الأوروبية وروسيا.
- الامتداد السياسي القوي داخل تركيا، المتمثل في حزب "ديم".
وما دام هذا الدعم الدولي المستمر قائمًا، وما دام جناحها السياسي القوي في تركيا لم يُقطع بشكل نهائي، فلن يكون بمقدور أمثالنا أن نكون متفائلين على الإطلاق. لا نملك في الواقع إلا "التحفظ الشديد"، وليس التفاؤل الزائد عن الحد.
أملي الوحيد هو أن يتمكّن حزب "ديم"، الذراع السياسية لمنظمة "بي كا كا" الإرهابية، من النأي بنفسه بصدق وشفافية عن هذا التنظيم الإرهابي المقيت. غير أن المواقف الصادرة عنه حتى الآن تشير بوضوح إلى غموض كبير، وعدم وضوح في الرؤية.
وبكلمات أخرى بسيطة ومباشرة، لا يوجد أي تغيير فعلي ملموس في الظروف التي أوجدت في الأساس منظمة "بي كا كا" الإرهابية. والدولة التركية على دراية تامة وكاملة بكل هذه الحقائق.
وقد عبّر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن هذا الإدراك العميق بقوله: "إذا لم تُنفَّذ الوعود التي قُطعت، وإذا تحوّلت العملية إلى مجرد مراوغة وتسويف، أو محاولات بائسة لخداعنا بتغيير الأسماء دون تغيير الجوهر، فسيرفع القلم عنا، وسنواصل عملياتنا العسكرية الجارية بلا هوادة أو رحمة، حتى لا يبقى حجرٌ فوق حجر، ولا رأسٌ فوق كتف، حتى القضاء التام والكامل على آخر إرهابي متبقٍ".